لي ذكرياتٌ لا تُنسى في شارع قابل، تلك الطريق الطويلة التي اعتدنا أنا وعائلتي على التنزه فيها في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك، حين يقترب العيد، كان هذا الشارع يمتلئُ بعربات تعرض ما لذّ وطاب من الحلوى والمقرمشات من كل شكلٍ ولون، لا زلتُ أرى بذاكرتي الطفولية أكوام النوغا المغلفة بورق الألمنيوم المزركش اللامع كأنها تلالٌ صغيرةٌ من النجوم الملونة. كان هذا الشارع بالنسبة لي مكاناً سحرياً لا يظهر إلا حين يحتاج الناس لشراء أغراض العيد. ولا زال مذاق البليلة الساخنة التي كان أبي يتوقف لشرائها لنا عالقةً في فمي مع نكهة المخلل والكمّون المضاف إليها، وصوت البائع ينادي: بليلة بلبلوكي! بليلة بلبلوكي..! لا زال هذا النداء المحبّب عالقاً في سمعي.. كيف لذكرياتٍ بهذا العمق والجمال أن تنمحي؟
كنتُ في العشرينيّات من عمري حين انتقلنا من الرياض إلى جدة وتعرفت وقتها على جدة التاريخية باعتبارها منطقةً تراثية، لم أكن أملك المصطلحات المناسبة للتعبير عن شعوري نحوها، ولكن كنتُ أشعر بالألفة والدهشة معاً حين أمشي في أزقتها الوادعة، كان شيء في أعماق روحي يعرف هذه المنطقة، يعرف البيوت القديمة والجدران والمآذن والرواشين، كان إحساسي بها يشبه إحساس العودة إلى البيت بعد سفرٍ طويل، أليست هي بيت الآباء والأجداد؟جدة التاريخية بالنسبة لي هي مكانٌ مغمورٌ بالعاطفة والدفء والبساطة، هذه الأشياء التي نفتقدها اليوم في عالم السرعة والازدحام والتعقيد، يكفي أن تأخذ فيها جولةً قصيرةً فتشمّ عبق التوابل التي كانت الجدّات تستعملها في مطابخهن العامرة بالحب والطيبة والكرم..
كانت فترة ما بعد الظهيرة في أحد أيام شهر ديسمبر الذي يأتي بطقسٍ بالغ الروعة في جدة، تعرفت يومها للمرة الأولى على جدة التاريخية، أذهلتني فكرةُ اجتماع أكثر من 650 منزلاً في دائرةٍ قطرها ميلٌ واحد في مواجهة سماءٍ زرقاء هادئة، تخيّلت الألفة التي كان يشعر بها أهل جدة التاريخية قرب منازلهم من بعضها البعض، وكأن الجدران كانت تتنصت على ما يقال من كلامٍ خلفها، كما أن بعض المنازل ارتبطت بجسورٍ فيما بينها ليتمكن أهلها من تبادل الزيارات دون الاضطرار للخروج إلى الشارع وهذه فكرة مفرطةٌ في العاطفية!
أذهلتني الرواشين بتصاميمها الفريدة بالغة التعقيد والتي تنم عن حرفية عاليةٍ واعتناءٍ عميق بأدق التفاصيل الجمالية، فخامة تسرق الأنظار بألوانها المختلفة مثل الأزرق المخضرّ والأخضر الفاخر في أبهى صورة. جدة التاريخية هو الاسم الشائع لمدينة جدة التاريخية، هذه المنطقة التي كانت ذات يوم مركزاً اجتماعياً واقتصادياً مرموقاً تلتقي فيه حضارات العالم كله. أطلق على جدة التاريخية لقب بوابة المدينة المقدسة لأنها كانت المدخل البحري للحجاج القادمين من شتى بقاع العالم إلى أرض الحرمين لأداء الحج والعمرة، كما أنها كانت ملتقى طرق التجارة القادمة من المحيط الهندي وشرق آسيا صوب أوروبا وشمال إفريقيا، إذ كانت القوافل تحطّ رحالها في شواطئها الآمنة، محمّلةً بأصناف التوابل والعطور والأقمشة والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، الأمر الذي أكسبها أهميةً بالغةً وجعلها محط أنظار العالم كله، وها هي اليوم تستعيد أمجادها القديمة وتدعو الزوار للتعرف عن قرب على معالمها الخالدة وخوض تجربة سياحية لا تنسى.
بُنيت جدة التاريخية على يد أجيال متعاقبةٍ من عائلات جدة العريقة التي تراكمت ثرواتٍ كبيرة من ممارسة مهنة التجارة وتوارث ذلك جيلاً بعد جيل. عند جلوسك خلف إحدى الرواشين التي تمتلئ بها منازل جدة التاريخية، سينتابك شعورٌ عاطفيّ عميق، و سوف تلمس من خلال أضواء البيوت الخافتة الحضور الروحي المكثّف لسكان المدينة القدماء، الذين كانوا يشكّلون النسيج الاجتماعي المتماسك للبلد، بالتصاق منازلهم، وتبادل الزيارات من خلال الجسور المعلّقة، وستسمع أيضاً صدى صرخات الأولاد وهم يلعبون ويركضون في الأزقة القديمة، وسوف تُعيدك رائحة التوابل القوية إلى زمن الأكلات التقليدية التي كانت تنتظر الرجال عند عودتهم بعد الظهيرة متعبين من العمل، واليوم يعيش أبناء هذه العائلات في الأجزاء الأكثر حداثةً من مدينة جدة، ولا زالوا يحافظون على التقاليد القديمة لأجدادهم، وإن كان الشعور بالتقارب بين الناس أخف وطأة من ذي قبل.
بعد أن نشأتُ في الرياض، المدينة ذات النمط الأكثر حداثة وتطوراً، كانت زيارتي للبلد أشبه بدخول بوابةٍ للزمن، شيءٌ يشبه العبور إلى حقبةٍ زمنيةٍ أخرى في لحظات، والغريب أنني لم أشعر بأي وحشةٍ أو اغتراب، بل بدت لجدة التاريخية بكل تفاصيلها كمكان مألوف سبق لي زيارته في زمنٍ آخر، مع أنها بالفعل كانت زيارتي الأولى، لكنني عرفت تلك الأسماء بمجرد سماعي لها، عرفت الجمجوم، الباعشن، البترجي، ناصيف، كل هؤلاء الذين عاشوا هنا ذات يوم، أعرفهم، وأعرف قصصهم جيداً، وأسمع صدى أحاديثهم تنبض بها الجدران القديمة ونوافذ البيوت العريقة.
بعد عامٍ من الغياب عنها، عدتُ إلى جدة التاريخية في زيارة جديدة ضمن تقليدٍ ثابتٍ تسلل إلى حياتي دون أن ألاحظ. في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين كانت بعض البيوت بحاجة إلى صيانةٍ وترميم، وبعضها الآخر وقعت فيه حوادث حريق مؤسفة، ولذلك فإن وزارة الثقافة قد أخذت على عاتقها مهمة حماية الإرث التاريخي العظيم الموجود فيها، وبثّ الحياة في بعض النواحي المهملة لهذه المدينة التاريخية، حيث تم الشروع في تنفيذ مشروعٍ ضخمٍ لتجديد وصيانة المباني القديمة فيها دون تغيير في تصاميمها أو نمطها المعماري، كما تم إنشاء مراكز اجتماعية وثقافية ودعوة الأجيال الشابة للانتساب إليها والتفاعل مع الأنشطة التي يتم الترويج لها، وذلك لأن الحفاظ على التواصل مع الماضي العريق هو جزءٌ من عملية البناء لمستقبلٍ مزدهر، والأهم من ذلك، يجري تنفيذ مشاريع تهدف إلى تمكين سكان جدة التاريخية من الناحية الاقتصادية، لتنشيط الأسواق فيها، وتحويلها إلى مركز جذبٍ للأعمال والمشاريع، وقطاعٍ حيوي مزدهرٍ وقادرٍ على استقطاب رؤوس الأموال والمستثمرين، لتكون مدينة جدة بشقيّها التاريخي والحديث، جزءاً فاعلاً في الحراك التنموي الذي يعمّ كامل أرجاء المملكة العربية السعودية.
بفضل جهود مشكورة من مؤسسات المملكة، تتقدمها وزارة الثقافة، عادت الحياة لتدبّ من جديد في طرقات جدة التاريخية، وأنا أشعر بالامتنان والراحة لأن هذا المكان التاريخي العظيم يتم تكريمه بما يستحق. أنا واحد من عشاق جدة التاريخية الكثيرين، وبالرغم من أن عائلتي لم تسكن يوماً فيها _ كانوا في مكة _ إلا أن ارتباطي جدة التاريخية متينٌ وكأن أجدادي الأوائل ينتسبون لها منذ قديم الزمان، ولست أنا وحدي من يشعر بذلك، فكثيرٌ من أهل المملكة وحتى ممن يأتون لزيارتها من دولٍ أخرى، يشعرون بالحنين والانتماء إلى جدة التاريخية د وكأنها موطنٌ جامعٌ لكل من يبحث عن مأوى دافئٍ لذكريات طفولته، وبالنسبة لي، فقد بدأ الأمر كله من حلوى العيد التي كنا نأتي لشرائها في أواخر شهر رمضان المبارك، كانت أجواءً من السرور والبهجة التي يستحيل أن تنمحي من الذاكرة مهما طال الزمان، واليوم، أشعر بفرحةٍ لا توصف لأنه أصبح بإمكاني عيش هذه الذكريات مجدداً في أي وقتٍ أريده.